أيها الإخوة المناضلون
نحتفي في التاسع من أيار هذا العام, بالذكرى التاسعة والعشرين للانتفاضة الثورية في صفوف حركتنا فتح, ونستقبل في الوقت نفسه عاماً جديداً من عمر الانتفاضة ومن أعوام الثورة والنضال.
وكما أكدنا سابقاً أن هذه الانتفاضة ليست مجرد تاريخ مر عليه سنوات طويلة وانتهت مفاعليه, نؤكد اليوم مجدداً أن هذا الفعل الوطني والموقف الوطني, سيظل فعلاً مستمراً ومتواصلاً, وموقفاً يزداد أصالةً وعمقاً, ونضالاً لا توقفه التحديات والمصاعب, ولا تؤثر فيه معادلات ومصالح آنية, ولا تضعفه مشاعر الخذلان التي تسود الواقع الفصائلي الفلسطيني راهناً.
لقد شهدت هذه السنين الطويلة, تجربةً نضالية شجاعة, تصلبت فيها الإرادة وازداد فيها الإصرار والتصميم, وتعزز فيها الوعي بمعنى الانتماء للوطن والشعب والأمة والقضية.
سنوات نضال صعبة وشاقة, تجلت فيها مواقف شجاعة اتجاه جملة من الأحداث والتطورات والتحولات الكبرى في ساحتنا الفلسطينية والعربية بل وفي العالم أجمع.
وهي تجربة تحمل الكثير من الدروس, تحققت فيها انجازات, وشهدت إخفاقات وتراجعات, تجربة شهدنا فيها ايجابيات عززت من ثقتنا بالنصر الأكيد, وعشنا فيها سلبيات لم تستطع النيل من الإرادة, أو تضعف العزيمة.
وعندما نقول هنا ( تجربة ) فإن هذا لا يعني أبداً الوقوع في خطأ التجريب أو عدم وضوح في الرؤية, أو اهتزاز في التشخيص السياسي, يدفع بأصحابه الانتقال من موقع إلى موقع, ومن خندق إلى آخر, فيقودهم إلى السقوط, أو الوقوع في خانة الانتهازية السياسية, وبالتالي إلى الشلل والجمود وانتظار الحلول والتسويات ونصيبهم منها إن كان هناك من غنيمة.
إن التجربة التي نعنيها هنا, تعني فيما تعني, غنى في الفكر السياسي, ومراكمة في الخبرة والوعي, وشفافية في قراءة الأحداث وتحديد المهام التي تستوجبها, وهي محصلة مسار وطني ومسيرة كفاحية, تظل تتواصل حتى تحقيق الأهداف الوطنية التي نصبو إليها.
واليوم بهذه المناسبة, ربما يراود البعض في حركتنا أو ساحتنا الفلسطينية, سؤال كبير يطرحونه على أنفسهم, ماذا حققت الانتفاضة في فتح؟, هل هي مجرد حدث حصل في زمن مضى وانطوى؟, أم هي فعل وطني كفاحي لازال يكتسب أهمية وطنية إلى يومنا هذا, وارتباطاً بهذا السؤال والإجابة عليه, يندرج سؤال آخر, هل شّكل يوم 9/5/1983م, بداية أحداث ساخنة وعنيفة شهدتها حركة فتح والساحة الفلسطينية عموماً ونتج عنه تشكيل جديد, وبهذا يكون هذا الفصل والحدث قد أسفر عن هذه النتيجة؟, وها هي فتح الانتفاضة فصيل آخر, قائم بذاته, له هيئاته القيادية, وأطره وبناه القاعدية, يعقد مؤتمراته, وينتخب هيئاته القيادية, ويضع أنظمة ولوائح وبرامج سياسية, وله تحالفاته وعلاقاته, وهو بهذا فصيل يضاف إلى الخارطة السياسية الفلسطينية, شأنه شأن باقي الفصائل, وينطبق عليه ما ينطبق على الآخرين!!.
والأكيد أيها الإخوة إن إعادة الإجابة فكرياً وسياسياً على هذين السؤالين له أهمية استثنائية في هذا اليوم وفي هذه المرحلة التي يمر بها نضالنا الوطني, وفي هذا الظرف الخطير والدقيق الذي تمر به قضية فلسطين برمتها.
إن أعادة الإجابة اليوم على مثل هذه الأسئلة, لا يعني أبداً البحث عن عنوان آخر لانتفاضة حركتنا, ولا ينطلق من فشل أو إخفاق يتوهمه أحد, في تحقيق أهداف حملناها على عاتقنا, ورفعنا رايتها شعاراً ودماً, بل تعني تأكيداً واستحضاراً لكل الأهداف التي حددناها في حينه, وقد جاءت الأحداث والتطورات لتؤكد ليس على صحتها فقط بل على ضرورة الاضطلاع بها وطنياً, كمسؤولية ملقاة على عاتق كل القوى الوطنية الفلسطينية الملتزمة نهج وخط المقاومة والكفاح المسلح سبيلاً للتحرير.
الحديث عن الانتفاضة في 9/5/1983م, ليس حديث في التاريخ, كحدث مضى, بل هو حديث في السياسية وفي الفكر السياسي وفي الراهن السياسي وما يقتضيه من مهام ومسؤوليات.
فالانتفاضة وعيٌ ومسؤولية وطنية, والوعي والمسؤولية ليس لهما تاريخ يحدد صلاحيتهما, فهما ليس سلعة تنتهي صلاحياتها بتاريخ محدد, ليحل محلها بضاعة جديدة, فهما صدق مع الذات ومع الجماهير, وحرصٌ على الحقوق, والحقوق هنا هي حقنا الكامل في وطننا فلسطين, لا ينازعنا فيه أي إدعاء, ولا يثنينا عنه أي اغتصاب أو احتلال, ولا تتلاعب به أي قرارات أو معاهدات, ولا ينتقص منه أي إغراءات أو هواء أو مصالح ذاتية أو أغراض سياسية معينة, تلاءم اللحظة السياسية, وتطوي صفحة الحلم بالتحرر والتحرير لخدمة صفحة السلطة والدولة المسخ.
لم نخطئ يوماً عند تحديد المهام الوطنية التي أشّرنا عليها قبل تسعة وعشرين عاماً, أننا وحدنا سنكون قادرين على صنعها وانجازها, فحماية الثورة مسؤولية وطنية كبرى, وحماية منظمة التحرير الفلسطينية واستعادتها لخطها الوطني, مهمة تحتاج إلى جهد وطني كبير يقع على عاتق الفصائل والقوى والشخصيات والفعاليات الوطنية, وعموم المؤسسات والهيئات والاتحادات الشعبية, وحماية مبادئ وأهداف وتاريخ وتراث حركة فتح ودورها الريادي, مهمة قمنا بواجبنا ومسؤوليتنا تجاهها, لكنها تحتاج إلى جهد وحراك لازال على المخلصين والشرفاء الذين يواصلون انخراطهم في أطرها, مسؤولية وأمانة على عاتقهم للمساهمة في حماية دور الحركة, وبالتالي في حماية القضية من التصفية.
في 9/5/1983, قرعنا الجرس, ورفعنا الصوت عالياً, وبدأنا الخطوة الأولى الصعبة الشاقة, خطوة عمدناها بالدم والتضحيات, ففشلت مؤامرة إطفاء جذوه المقاومة والثورة, وها هي اليوم شعلة المقاومة تزداد اشتعالاً, وها هو شعبنا يلتف حول المقاومة, متمسك بحقوقه, يقاتل بلحمه الحي, وقادر باستمرار على استنباط أشكال الصمود والمقاومة وابتداع أساليب المواجهة من هبات وانتفاضات مجيدة.
في 9/5/1983, وقفنا لنعترض مسار نهج سياسي خطير ومدمر يدفع بحركة فتح ومنظمة التحرير إلى مهاوي الحلول التسووية والتفريط, رأيناه وتلمسناه مبكراً, وكنا ندرك أن هذا المسار تحتضنه وتدعمه وتسانده قوى إقليمية ودولية كبرى, وندرك أن إفشال هذا المسار يحتاج إلى نضال وصمود وثبات ومراكمة وصراع مرير, لكن ضراوة هذه القوى وسطوتها لم ترعب الأحرار والشرفاء والمناضلين في صفوف الحركة, وها هو الصراع اليوم لا زال يحتدم على أشده بين معسكرين, معسكر أعداء شعبنا وأمتنا من امبرياليين وصهاينة, ومن يتواطئ معهم من أبناء جلدتنا فلسطينيين وعرباً, ومعسكر الصمود والمقاومة, تتخندق فيه الغالبية العظمى من جماهير شعبنا وقواه الوطنية الحية, والأحرار والشرفاء في الأمة, يرتكزون في نضالهم على قلاع الصمود والمقاومة في أمتنا, سورية العربية الصامدة, والمقاومة في لبنان بقيادة حزب الله, والجمهورية الإسلامية الإيرانية كعمق وبعد إسلامي هام, إلى غير ذلك من المواقف التي ستتسع دوائرها في العديد من أقطار أمتنا, بعدما انكشف لها حقيقة ( السلام المزعوم ) وحقيقة الاستهدافات المعادية.
الصراع لم يتوقف, وجذوة النضال لم تنطفئ, وأهداف التاسع من أيار 1983, لازالت حاضرة بقوة, تفعل فعلها وهي بما طرحته من أهداف, حديث الراهن السياسي من حوار ونقاش واستخلاص يترتب عليه مهاماً وطنية سياسياً وتنظيمياً.
في هذا الإطار انتفاضة فتح, انتفاضة في سياق النضال لبلورة مشروع وطني فلسطيني, وليس تأسيس فصيل يكون نهاية المطاف, انتفاضة لأحداث التغير المطلوب للمساهمة في إخراج العمل الوطني الفلسطيني من أزماته الراهنة, وليس انقسام أو انشقاق, انتفاضة في سبيل بناء وحدة وطنية فلسطينية حقيقية, تبنى في أطار الصراع , تجعل من منظمة التحرير إطاراً وطنياً جامعاً لكل قوى شعبنا, وقائدة لنضاله, وليس هيئة تزور إرادة الشعب, وكل ما تملكه راهناً ( ختماً ) يوقعون به وثائق الإذعان والاستسلام.
ويهمنا بعد جملةٍ من المستجدات التي طرأت, والتوصل إلى اتفاق المصالحة بدون المصالحة, والتلهي بتشكيل إطار قيادي مؤقت للمنظمة, يقفز عن ما هو مطلوب من تقييم ومراجعة, ودون رؤية وطنية واستراتيجية كفاحية, وبرنامج سياسي يستند إلى الميثاق الوطني, وهو إطارٌ لم تشارك به الحركة, فالسؤال اليوم في ظل هذه المستجدات, على ماذا نراهن؟, وعلى من نعول؟, ونجيب بالقول, أننا نراهن أولاً على شعبنا المناضل, هذا الشعب العظيم الذي واصل نضاله على مدى أكثر من قرن من الزمن ولا يزال, نراهن على شعبنا صاحب القضية وصاحب الوطن وصاحب الحقوق, نراهن على حسه الوطني وتاريخه النضالي وتراثه الكفاحي, فهو المعلم, وهو المرجع, وهو الذي يقول كلمته أخيراً بعد الاستماع إلى كل الكلمات, ويعلن موقفه أخيراً بعد التعرف على كل المواقف, هكذا كان على الدوام, وفي كل المفاصل والمنعطفات, يرفع صوته عالياً في وجه الغزاة, ويعيد الأمور إلى نصابها والقضية إلى جذرها وجوهرها والحقوق إلى مكانتها.
نراهن على أمتنا, على جماهيرها المنتفضة, التواقة للحرية والتحرر والكرامة, بعدما سلبت طويلاً حريتها, وامتهنت كرامتها الوطنية والقومية, وهي لن تقبل بعد اليوم اغتصاباً أو احتلال, ولن ترضخ بعد اليوم لتدخل أجنبي, ولن يكون بوسع أحد تزييف وعيها وخداعها وتضليلها.
نراهن على معسكر الصمود والمقاومة في الأمة, الذي يدرك حقيقة الاستهدافات المعادية لأمتنا ووطننا العربي الكبير, وسيظل ثابتاً على موقفه, متحفزاً لهزيمة المخططات المعادية.
ونراهن أخيراُ على ما تعلمناه في التاريخ, تاريخ الشعوب والأمم, التي واجهت الغزاة والطامعين والمستعمرين, بان القضايا العادلة لا تموت, وأن الحقوق لا تسقط بالتقادم, وان الشعوب الحرة تستطيع قهر وهزيمة أعدائها.
على هذا نراهن, ولسنا خاسرين في رهاننا, نحن ننتمي للشعب والأمة, لهذا نجدد العهد على المضي على درب الثورة والعطاء, ونجدد العهد على التمسك بالثوابت والحقوق, ونجدد العهد على رفض الاعتراف بالعدو وحقه بالوجود, وعلى مواصلة نهج الكفاح المسلح على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين.