في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول عام 2000 كان الشعب الفلسطيني على موعد مع انتفاضة ثانية، عبد طريقها بالدماء والجراح، ودفع ضريبة باهظة لحراسة المسجد الأقصى وتطهيره من دنس الاحتلال لذلك أطلق الفلسطينيون عليها "انتفاضة الأقصى".
وفي الثلاثين من الشهر نفسه قتل الطفل الفلسطيني محمد جمال الدرة بعد أن حاصرته النيران الصهيونية بين يدي أبيه وأمام كاميرات التلفاز، فصار بذلك رمزا للانتفاضة الفلسطينية.
واندلعت انتفاضة الأقصى تعبيرًا عن مرحلة جديدة في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، وذلك في ضوء ما آلت إليه عملية التسوية التي جاءت بعد توقف الانتفاضة الأولى.
فقد استمرت عملية التسوية في مرحلتها الانتقالية أكثر من ست سنوات، مع أنه كان مقررًا لها ثلاث سنوات فقط، وعقدت خلال هذه المرحلة عدة اتفاقات لتنفيذ المرحلة الانتقالية.
ونفذت السلطة الفلسطينية ما ألزمتها به هذه الاتفاقيات، ولم ينفذ الكيان الصهيوني إلا القليل من البنود المقررة عليها. ولذلك كانت نتائج المرحلة الانتقالية مخيبة لآمال الشعب الفلسطيني، ولم تسفر مفاوضات المرحلة النهائية عن أي نتائج أو اتفاق، فأُحبطت السلطة الفلسطينية.
وفي ضوء تعاظم الضغط الصهيوني على الشعب الفلسطيني، انطلقت الانتفاضة الثانية، وتركت بصمات واضحة على مسيرة الصراع، لا في فلسطين فحسب، بل في بُعد الصراع العربي والإسلامي والعالمي.
وخلال اشتعال الانتفاضة، تغيرت رئاسات الحكومة في الكيان الصهيوني وأمريكا، كما تغيرت المواقف، وتحركت البركة التي كادت مياهها تأسن، من طول الانتظار.
وولدت هذه الانتفاضة على أرضية مهيأة لها، ومعدة لانفجارها، كما ولدت في زمن تضافرت فيه كل الظروف والمناخات، لتفاعلها واشتعال نارها.
ولم تنطلق الانتفاضة من دون مقدمات، أو من غير دوافع أدت إلى اشتعالها، بهذه الصورة المذهلة، التي فاقت كل التوقعات.
ولم تكن انطلاقتها عبثية عشوائية من غير قاعدة أو أساس، بل انطلقت بشكل مدروس، نتيجة لاختناقات انفجرت مع توافر الأسباب، لتحقيق أهداف آنية، وأهداف مرحلية، وأهداف بعيدة المدى.
وتعين معرفة الحادث المباشر الذي فجّر الانتفاضة، في إدراك حقيقة تسميتها بـ"انتفاضة الأقصى". ذلك أن زعيم حزب الليكود أرييل شارون" قرر زيارة المسجد الأقصى، يحرسه أكثر من ألفي ضابط وجندي.
وعندما وصل ساحة المسجد، فجر وصوله كوامن الغضب لدى المصلين، الذين هبوا لصده وجنوده. فهاجموهم بالحجارة والزجاجات، وكل ما وقعت عليه أيديهم، بعنف لم يسبق له مثيل.
وقد أجبر الهجوم شارون وجنوده على التراجع، بعد أن أصيب منهم أكثر من خمسة وعشرين ضابطًا وجنديًا.
وعقب فشل الزيارة بيوم واحد، ارتكب الصهاينة مجزرة في ساحة المسجد الأقصى المبارك، كانت حصيلتها 8 شهداء، و7 فقدوا البصر، و220 جريحاً.
وفي اليوم التالي سادت المناطق الفلسطينية حالة من الغليان والغضب الشديدين، منذ صباح السبت 30 سبتمبر احتجاجاً على المجزرة البشعة، التي ارتكبتها قوات الاحتلال يوم الجمعة 29 سبتمبر 2000م، في ساحات المسجد الأقصى المبارك.
وتميزت هذه الانتفاضة باستخدام السلاح وكثرة العمليات الاستشهادية، وقدم خلالها الشعب أكثر من أربعة آلاف شهيد وأكثر من 48 ألف جريح.
وقال الباحث المختص بشؤون الأسرى عبد الناصر فروانة إن قوات الاحتلال الصهيوني نفذت منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر عام 2000 ولغاية اليوم قرابة 75 ألف حالة اعتقال.
وشاركت جميع القوى الفلسطينية في هذه الانتفاضة بما في ذلك القوى المؤيدة لعملية التسوية في مؤشر واضح على إحباط هذه القوى وعلى رأسها حركة فتح وشعورها بخيبة الأمل من عملية التسوية.
وشهدت انتفاضة الأقصى إجماعًا وطنيًا رغم عدم توافق البرامج السياسية للقوى الوطنية والإسلامية المشاركة فيها.
وفي هذا السياق يأتي موقف الشارع العربي الذي فرض نفسه بقوة من خلال المظاهرات والاحتجاجات التي عمت الدول العربية من المحيط إلى الخليج إضافة إلى الدول الإسلامية، وهو الموقف الذي دعا إلى إسناد الانتفاضة بالنار العربية وبسلاح النفط وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
إلا أن هذا الموقف الشعبي لم يكن له صدى رسمي يتناسب معه، فكانت قرارات القمة العربية أقل من الحد الأدنى المتوقع وهو قطع العلاقات مع العدو الصهيوني ووقف التطبيع معه وسحب السفراء العرب من تل الربيع المحتلة إذ اكتفت هذه القمة بالإشادة بالانتفاضة وإيجاد صناديق مالية بقيمة مليار دولار لدعمها.