مع وضعية كتلك التي وصل اليها العالم من حيث اجتياح العولمة _بما هي مرحلة أخرى لوحشية رأس المال- واحتلالها لكل حيز صغر أم كبر طالما يوفر امكانية للنهب، وما تفرضه تبعاً لذلك من متطلبات تنسجم مع ذاتها ومع كل ذي هوىً راسمالي وتدفع باتجاه ازاحة أي شيء –قوميات، ثقافات، دول، أديان...- يعيق مسيرها و/أو يحد من هيمنتها، يغدو الحديث عن المقاومة والممانعة ومناهضة التطبيع نشازاً طالما بقي يقارع بيت الطاعة من خارجه وأبى دخوله وبمفهوم المخالفة يصبح لا غرابة في الاحتفاء بكل ما من شأنه تعزيز الهيمنة/الازاحة/الرضوخ/الخيانة.
من هنا، فان "مؤتمر الاستثمار الفلسطيني" بما هو حفل تطبيعي بامتياز جمع بين "العبقرية اليهودية والمال العربي" على حد تعبير الصهيوني بيريس لا يعدو أن يكون حلقة أخرى من حلقات مسلسل التطبيع والخيانة الذي بتنا نشاهده ليل نهار على شاشة وطننا العربي من ماءه الى ماءه، نعم خيانة، أما أن نسمي الأشياء بغير مسمياتها ونقول بأن المؤتمر قد جاء تتويجاً لجهود سياسية مضنية بذلها عاشقو السلام، وبأنه فاتحة لمشاريع استثمارية تريح الوطن والمواطن من آفات الفقر والبطالة وتخلق جواً صحياً يساعد القطاع الخاص في انجاز مهامه الوطنية وهو خطوة مهمة في عملية السلام في الشرق الأوسط والى ما هنالك مما يمكن للذهنية المنبطحة أن تتفتق عنه، فهذا أيضاً تسويق للتطبيع والخيانة. ربما يرى البعض في ذلك نزعة إقصائية ترفض الآخر وتغالي في وصفه ووصف من يصطف الى جانبه وبالتالي لا فرق بينها وبين الأصولية الدينية، هذا وكأن هذا الآخر صديق، وهنا تكمن عدم مشروعية هذا الرأي حيث أن هذا الآخر عدو ولا يمكن النظر إليه إلا من هذا الباب وبغير ذلك تكون الخيانة واضحة بلا رتوش، وهذا العدو "الآخر" ليس شرطاً أن يكون ذلك الآتي من وراء البحار؛ فكم من عدو يعيش بين ظهرانينا، أولئك الذين قال فيهم مظفر النواب "نياشين دم الضحايا على صدورهم زنبقة".
في "تأملاتها" حول المؤتمر كتبت السيدة راوية رشاد الشوا النائب في المجلس التشريعي في جريدة القدس 25/5/2008 تقول:
(الخوف من التطبيع...!!! نرجو من السادة الذين ما زالوا يرددون قضية التطبيع أن يتوقفوا...!!! فلو أن القطاع الخاص نجح في بيع منتجاته لإسرائيل والعالم العربي والأوروبي، فنعتبر هذا اختراقاً...).
* هو الخوف من التطبيع بعينه، والخوف سيكولوجياً إما أن يدفع المرء الى الهروب كما فعل ويفعل "من هرب من وجه قضيته" ومن اختار الوعظ بعدم ترديد قضية التطبيع أو أن يدعو لاعمال العقل في ابتداع طرق المواجهة كما فعل ويفعل "مرددو قضية التطبيع"، وبين الفعلين مسافة وعي وانتماء موسومة بقبح المرحلة وجمال المقاومة، أما الخوف الذي يلف الكاتبة فنترك أمر تقديره للقارئ/ة.
* ترديد قضية التطبيع: يا للهول أي قمع برجاء هذا، سنبقى نناهض التطبيع حتى ينتهي وبالضرورة انتهاء القائمين عليه والأهم من ذلك أننا لن نمل من الترديد، ولكن لماذا نتوقف ومن أجل من؟ أعلينا مكافأة المحتل على احتلاله لنا؟ أي وعي وانتماء يجعلنا نفعل؟ أم أن عدونا ما عاد كذلك؟ لا يمكن تجاهل هذا والذهاب الى التطبيع سوى من قبل من لا يرى أي مكان لهذه التساؤلات كونه يعتقد بأن الصراع _لا يستخدم المطبعون ومن لف لفهم كلمة صراع البتة واستبدلوها بالنزاع أو الخلاف_ قد انتهى، متجاهلاً حقيقة أن الصراع مفتوح حتى زوال الاحتلال واندثار سدنة رأس المال.
* الاختراق: وصل التسطيح بالبعض الى درجة الوهم بأن منتجات قطاع خاص كمبرادوري يقبع تحت الاحتلال يمكنها غزو أسواق "اسرائيل والعالم العربي –وليس الوطن العربي- والأوروبي" بكل بساطة، وكأن المسألة فقط انتاج وتصدير، أي أنها ليست خاضعة لإملاآت العدو من حيث تحديده لاستهلاكنا قبل انتاجنا، ثم أن هذا الاختراق تردد كثيراً لما أريد لمنظمة التحرير الفلسطينية فتح باب الحوار مع العدو، وكانت النتيجة ما نراه الآن من سقوط يتبعه سقوط، فماذا ستكون نتيجة هذا الاختراق؟.
لم يقتصر الانبطاح على فرد هنا وآخر هناك، ولم يكن له أن يصل هذه الدرجة لولا البؤس الذي تعيشه الحركة الوطنية –العلمانية تحديداً- وانبطاحها أولاً، والتي تثبت يوماً بعد يوم بأنها ليست بمستوى تطلعات وتضحيات الشعب، فهي باركت –معظمها على الأقل- مؤتمر الاستثمار "حفل التطبيع" وشاركت فيه وامتطت المقاعد الأولى بعدما طلقت البندقية وولت وجهها لمن يمنحها مكياجها ويستر عورتها وهو الفاضح والمذل لها، مع ذلك يبقى أن نقول، من اختار الانبطاح أمام المرحلة فلينبطح حتى يهلك وسيهلك لا محالة، وأما من اختار الموت وقوفاً ليمت/ينتصر وحتماً سينتصر.
(**)
ما بعد مؤتمر الاستثمار الفلسطيني
أي سقوط هذا؟
أنس البرغوثي