فهمي شبانة وبينات الفساد
عبد الستار قاسم
ما أن ظهر فهمي شبانة على قناة التلفاز الصهيونية يشرح بعض بيناته حول فساد عناصر في السلطة الفلسطينية حتى بدأت ضده حملة واسعة مفادها أنه مجرد عميل للصهاينة يعمل على تشويه من يصفون أنفسهم بالثوار والمناضلين. على مدى سنين، عمل شبانة مع السلطة في مواقع مختلفة، لكنه لم يصبح عميلا للأعداء إلا بعدما انفجر في وجه الفساد.
بداية أشير إلى أن السيد شبانة غير بريء لأنه من المؤيدين لاتفاق أوسلو وما انبثق عنه من اتفاقيات ومن ضمنها التنسيق الأمني مع إسرائيل. ومن المعروف أن اتفاق أوسلو يشكل مسّا خطيرا بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، وهو يخالف كل المواثيق والقرارات الفلسطينية التي اجتمع الشعب الفلسطيني عموما حولها، ويسهل على إسرائيل الاستمرار في سياساتها التقليدية مثل مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتهويد القدس. السيد شبانة عمل مع أجهزة أمن تنسق أمنيا مع إسرائيل، وعمل رئيسا لجهاز هام، ومن المعروف أن إسرائيل تتفحص الأشخاص الذين يعملون في أجهزة الأمن الفلسطينية أو معها، وتصادق دون إعلانات على تعيينات المناصب الهامة في السلطة.
وأشير أيضا إلى أن موضوع الانتهاكات واللصوصية الذي أشار إليه السيد شبانة لا يقتصر على شخص هنا أو هناك وإنما هو عبارة عن نهج موجود في الصفوف الفسطينية منذ عام 1970. وقد شكلت هذه السلوكيات ظاهرة فلسطينية في بيروت وفي تونس وفي الأرض الفلسطينية بعد قدوم السلطة، وكانت تتم باستمرار دون تحقيق أو مساءلة أو رادع. بل أن العديد من أصحاب السلوك الشاذ، والذين تم ضبطهم بطريقة أو بأخرى تمت مكافأتهم أو ترقيتهم. مختلف ردود فعل المسؤولين الفلسطينيين تجاه السلوكيات المسيئة للشعب الفلسطيني تشير وتؤكد إلى أنه كان من المقصود تشويه الشعب الفلسطيني والتأثير سلبا على نضاله من أجل استعادة حقوقه.
والنقطة الثالثة التي أراها هامة في موضوعنا تتعلق بنوعية الأشخاص الذين عليهم تطبيق اتفاق أوسلو وتبعاته. من حيث أن الاتفاق يمس الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني فإن المتمسكين بهذه الحقوق وبالأخلاق والقيم الوطنية لا يصلحون لهذه المهمة. أي أن أوسلو لا يمكن تطبيقه بدون فاسدين يتخذون من الفساد نهجا يعمل على تفتيت النسيج الاجتماعي للشعب الفلسطني والهبوط بمستواه الأخلاقي. ولهذا صمت أهل الغرب بخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل عن تبديد الأموال الفلسطينية، ومدوا الحبل للفاسدين ليعبثوا بالمجتمع كيفما اتفق. وطبعا يفضل أهل الغرب ومعهم الكيان الصهيوني أن يكون القائد ماسونيا، ولو تحت مظلة أخلاقية ومهنية وهمية ذلك لأن الماسوني على قناعة بأن السلام في العالم لا يحل إلى بعد إقامة هيكل سليمان.
جدلية السيد شبانة
لم يكن الإعلان عن بينات شبانة مفاجئا لأن القصة مضى عليها زمن ليس قصيرا، وتحدثت بها الألسن على طول البلاد من الناقورة حتى رفح. وبالإمكان إجمال بيناته بالتالي:
1- هناك توثيق قد قدمه أمام الجمهور وهو عبارة عن تصوير متحرك، أو وثائق ورقية فيما يخص قضايا سرقة؛
2- لم ينشر شبانة قصته إلا بعدما استنفذ مختلف الوسائل لدى مسؤولي السلطة لاتخاذ إجراء؛
3- صبر السيد شبانة فترة طويلة من الزمن باحثا عن محاسبة فلسطينية، لكن الآذان لم تسمعه؛
4- السيد شبانة يشكل مرجعية في أمور فساد السلطة لأنه رئيس جهاز مكافحة الفساد، وهذا يتعزز لأنه من داخل السلطة وليس خارجها.
الظهور على شاشة تلفاز إسرائيلي
أنا ضد التطبيع الإعلامي، ولست مستعدا للظهور على شاشات التلفزة الصهيونية، لكننا نعرف جميعا أن مقاتلين فلسطينيين ضد إسرائيل اضطروا في يوم ما أن يلجأوا إلى إسرائيل هربا من نيران إخوتهم العرب أو الفلسطينيين. لا بد أن شبانة فكر مليا بالأمر ووازن بين أهمية النشر ومساوئ النشر عبر التلفزة الصهيونية، أو محاسن الاستفادة من حرية الإعلام الإسرائيلي.
لا يوجد من بين الإعلام العربي من هو مستعد لنشر الوثائق التي قدمها شبانة لأسباب عدة على رأسها غياب الحرية الإعلامية، والعلاقات العربية الداخلية. لا قنوات رسمية تمتلك جرأة النشر لمثل هذه الوثائق ولا قنوات غير رسمية أو خاصة. لقد دفعه الوضع العربي العام المتسم بالاستبداد والدجل نحو إعلام إسرائيل. وإذا كان للإعلام الفلسطيني أو العربي أن يلومه فإن عليه أن يفتح المجال أمامه للنشر.
أركان السلطة الفلسطينية ومثقفون فلسطينيون كثر دأبوا على التعامل مع وسائل الإعلام الصهيونية وعلى مدى سنوات طويلة، فهل هؤلاء خون؟ مقاييس الخيانة يجب أن تكون موحدة، ويجب عدم توزيعها مزاجيا ووفق المصالح الشخصية والحزبية. فإذا كان شبانة خائنا بسبب تعامله مع وسيلة إعلام صهيونية فإن كل الذين يتعاملون مع الوسائل الصهيونية خون.
التعاون مع المخابرات الصهيونية
هناك من يقول أن شبانة تعاون مع المخابرات الصهيونية لنشر معلوماته غير الصحيحة والمدبلجة، وسهلت له المخابرات الظهور على القناة العاشرة الصهيونية. حسب تتبعي لعمل المخابرات الإسرائيلية، فهي لا تعمل بهذه الطريقة، وإنما دائما تحاول توريط أشخاص عرب وفلسطينيين ومن خلال النساء بصورة كبيرة، ومن ثم تبتزهم للعمل معها ووفق أهدافها. المخابرات الإسرائيلية لا تذهب عادة إلى وسائل الإعلام، وإنما تستدعي الشخص المعني، وتقدم له وثائق حول سقوطه وتبتزه. ولهذا نرى فلسطينيين كثرا قد تبوؤا مواقع قيادية يعملون عمدا وعن سابق إصرار ضد المصالح الفلسطينية.
أما إذا شاءت المخابرات الإسرائيلية تشويه شخص معين فإنها تعتمد في الغالب على وسائل الإعلام التي تبث باللغة العربية لأنها تقع تحت طائتلها مباشرة. وسائل الإعلام الإسرائيلية تتمتع باستقلالية، وأحيانا تنشر فضائح لعرب ولفلسطينيين.
ثم هل من حق من ينسق أمنيا مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن يتهم الناس بالخيانة؟
الفاضح والمفضوح
المخطئ في فلسطين هو من يتحدث ضد الفساد وليس الفاسد، من يعري المجرمين وليس المجرم، الفاضح للسقوط وليس الساقط. من المجرم: الذي يسرق مليونا من الدولارات أم الذي يقول عنه إنه سرق؟ طبعا الذي يقول عنه وليس السارق. المعاييرفي فلسطين، كما في البلدان العربية مقلوبة تماما، وإذا كان لنا في فلسطين أن نفضح شخصا فهو شخص ضعيف يكون قد سرق مائة دولار، أو يكون قد اشتهى حيوانة.
يكثر الناصحون للذي يعمل على فضيحة ساقطين أو فاسدين فيقولون إن أسلوب الفضيحة غير صحيح، والمفروض أن يتبع الشخص أساليب حضارية ومهنية. ومن ثم تضيع القضية في البحث عن أخطاء للفاضح وليس فيما قام به المفضوح. ومن الملاحظ أن وسائل الإعلام الفلسطينية لا تأتي على ذكر أسماء عندما تتحدث عن انتهاكات أو اتهامات، وعادة ما يطلب المذيع عدم ذكر أسماء. السبب واضح وهو أن فضح شخص سيؤدي إلى فضح آخر، وستصل الأمور إلى المذيع نفسه إما من ناحية فضحه هو أو طرده من وظيفته. لكنه من المعروف عالميا أن الحديث العلني في وسائل الإعلام، وإجراء مقابلات مع المدعي والمدعى عليه يشكل وسيلة ردع كبيرة للذين تسول لهم أنفسهم القيام بأعمال مشينة.
الدفاع عن المفضوح في فلسطين شرس، وسرعان ما تهب قوات كثيرة دفاعا عنه. تهب وسائل الإعلام دفاعا عنه، وكذلك سياسيون ومثقفون، ووسائل إعلام عربية ومواقع إليكترونية، الخ. ونحن نلاحظ في قضية شبانة مدى الهجوم الذي تعرض له بينما نلاحظ قلة المدافعين عنه، أو قلة المنادين بالتعامل مع الأمر بمهنية. لماذا هذا التجييش لصالح الفاسدين أو المتهمين بالفساد؟ الأمر بسيط وهو أن أغلب المسؤولين ووسائل الإعلام الفلسطينية متورطة بالفساد بطريقة أو بأخرى، وإذا كان لمحاسبة أن تأخذ مجراها فإن رؤوسا كبيرة وكثيرة ستسقط، وستمرغ سمعتها في الأوحال. الأفضل دفن الفضائح.
ثم هناك خشية من قبل السؤولين من محاسبة أحد لأن المحاسبة قد تفتح ملفات كثيرة تصل إلى رؤوس الذين يحاسبون. فالأفضل عدم الحساب. كان لدينا تقليد منذ فترة وجيزة وهو قتل الشخص الذي يضيق به القائد ذرعا أو إبعاده عن المسؤولة بطريقة مشينة ولا تضر القائد.
عمالة السيد شبانة
لقد اعتدنا من السلطة الفلسطينية تعميل من ينتقدون رموزها وسياساتها وتخوينهم. هذا علما أنها حريصة منذ توقيع اتفاق أوسلو على الهجوم على الذين يخونونها ويستعملون كلمة خيانة بحقها. يكون الشخص صديقا أو مقربا أو حبيبا حتى يوجه لها الانتقاد العلني فيتحول إلى عميل لإسرائيل وخائن، أو عميل لإيران وسوريا، وربما زيمبابوي وموزامبيق. الآن يواجه شبانة تهمة الخيانة لأنه ظهر على التلفاز الصهيوني، وهذا يعني، وفق دعاية مؤيدي السلطة، التنسيق المسبق مع أجهزة الأمن الصهيونية.
شبانة يعمل في السلطة الفلسطينية منذ زمن طويل، وقد قبض راتبه، وفق ما كتبه هو، لشهر كانون ثاني/ 2010. فلماذا تستمر السلطة الفلسطينية بصرف راتبه إذا كان عميلا لإسرائيل؟ أصلا يا سيادة السلطة أنتم وقعتم على اتفاقيات تحظر ملاحقة العملاء والجواسيس، والتزمتم بملاحقة الإرهاب والإرهابيين. لو كان شبانة جاسوسا مباشرا للمخابرات الإسرائيلية لما قام أولا بنشر الوثائق التي بحوزته، ولما قمتم أنتم بمهاجمته بهذه الطريقة. مشكلة شبانة الأمنية كما هي مشكلة كثيرين أنه لا يدري مدى الالتزام بالأمن الإسرائيلي الذي تُلزم الاتفاقيات الفلسطينيين به.
إذا كان شبانة عميلا، وكانت السلطة ضد العمالة لإسرائيل، فلماذا لم تكتشف أمر شبانة إلا يوم الإعلان عن الوثائق التي بحوزته على التلفاز الصهيوني؟ سبحان الله كيف أتى السلطة الإلهام في ذلك اليوم. إذا كان شبانة عميلا، والسلطة تعتبر العمالة خيانة فإنه يجب أن يُحاسب الذي احتضنه وعينه مسؤولا عن ملف مكافحة الفساد.
مواجهة الحقيقة
السلوك السليم في حالات من هذا القبيل هو تشكيل لجنة تحقيق محايدة، وليس من السلطة، لبحث الأمر بكافة أوجهه، ومن ثم الخروج بنتائج وتوصيات. الشجاع هو الذي يواجه الأزمة ويعمل على معالجتها علميا، أما رد الفعل الهوجائي فلن يؤدي إلا إلى المزيد من المشاكل والهموم. الاتهامات المضادة لا تجدي نفعا، ولا تعبر إلا عن عجز، وصلاح المجتمعات يتعلق في النهاية في صلاحية الإجراءات والبحث عن الحق والحقيقة.
واضح من رد فعل السلطة الفلسطينية أنها في موقف ضعيف، وتحاول الهروب من الأمر بإدانة شبانة وكيل الاتهامات والسباب ضده. بل أن في موقفها ما يدين من ترغب هي في الدفاع عنه لأنه دفاع انفعالي هوجائي. الآن هناك قضايا فساد مطروحة، هل نشتم من يطرحها أم نبحث في التهم؟
للأسف هناك ثقافة مزرية تطورت في فلسطين وتقوم على استغلال النفوذ. ولتوضيح هذا أسوق فقط المثال التالي:
كان بالقرب مني اثنان من موظفي أجهزة فلسطينية خارج أسوار جامعة النجاح الوطنية. قال أحدهما للآخر: أنظر ما أجمل تلك الطالبة؛ فأجابه الآخر: لنوظفها علشان نتسلى عليها